المترجم: حاوي الكلمات أم وسيط الأفكار؟

المترجم: حاوي الكلمات أم وسيط الأفكار؟

تُعد الترجمة عملًا إبداعيًا خالصًا تتجلى فيه موهبة المرء في نقل أفكار غيره بلغته الأم أو باللغة التي يترجم إليها. ورغم إن بعض الجهات القائمة على أعمال الترجمة تدعي أنه ينبغي على المرء الترجمةإلى لغته الأم فقط لأنه أكثر تمكنًا بها، فإنني أؤمن بأن المترجِم الماهر يستطيع أن ينتقل بين اللغات التي يترجم منها وإليها بخفة ورشاقة دون أن يُصاب بقفلة الكاتب (Writer Block)، وهي حالة مؤقتة وعرضية يفقد فيها الكاتب قدرته على الإبداع، ويُطلَق عليها أحيانًا ” تعطل التدفق الإبداعي “.

مهمة المترجِم أن يطلق العنان للغته الخاصة، تلك اللغة الأصيلة الواقعة في أسر لغة أخرى … أن يطلق سراح تلك اللغة المأسورة في عمل ما بإضفاء روح جديدة لذلك العمل.
– والتر بنجامين

فالأصل في مهنة الترجمة هو الإبداع الذي ينهمر في سيل لا ينقطع طالما تمكن المترجِم من أدواته وأتقن اللغة التي يترجم منها وإليها. وهذا يقودنا إلى السؤال عن علاقة المترجِم بالكاتب (صاحب النص الأصلي). هل تتوارى شخصية المترجِم وراء الكاتب؟ هل يبيع المترجِم نفسه لحساب الكاتب مثلما فعل دكتور فاوست أم يبدع نصًا جديدًا باللغة التي يترجم إليها؟

ولمن لا يعرف قصة الدكتور يوهان جورج فاوست؛ فإليكم الخطوط العريضة لهذه القصة التي تعود جذورها إلى حكاية شعبية ألمانية تروي قصة خيمائي بلغ من العلم مبلغًا كبيرًا وصار على قدر خارق من المعرفة بعلوم التنجيم والسحر؛ إلا إنه كان غير راضٍ عن حياته وطمح إلى الحصول على المعرفة المطلقة والملذات الدنيوية كافة مما دفعه إلى إبرام معاهدة مع الشيطان (مفستوفيليس/ Mephistophilis) بأن ينال ما يطمح إليه من نجاح وشهرة ومعرفة لم ينلها أحد من قبله، وفي المقابل يحصد مفستوفيليس روحه في النهاية.*

ونعود فنسأل: هل يكون المترجِم حاويًا يمسك بعصا سحرية ليحول النص الأصلي إلى نص مُترجَم منمق يستمتع به القارئ؟ أم وسيطًا للأفكار يتخلى عن عقله وشخصيته ويبيع نفسه لحساب الكاتب لينقل أفكاره ومعتقداته وقناعاته؟

والحقيقة إن المترجِم عليه أن يتقمص دور الوسيط الناقل للأفكار؛ حيث ينقل ما يدور في ذهن الكاتب دون حذف أو إضافة وبأمانة شديدة مخالفة للمثل الإيطالي القائل: Traduttore tradittore (الترجمة: translators are traitors أو المترجمون خائنون). ومن ثَمّ، ينبغي على المترجِم المحترف أن ينقل روح النص والنبرة السائدة فيه؛ وسواء أكان المؤلف ساخرًا أم جادًا، ناقدًا أم مادحًا، يكتب نثرًا أم شعرًا، فلا بد للمترجِم أن يُحاكي النص الأصلي وينقله بحرفية شديدة ملتزمًا بالأسلوب الذي يتبعه المؤلف في كتاباته. فمن الحرفية والأمانة أن ينقل المترجِم ما يقوله الكاتب/النص الأصلي حتى وإن كان ما يقوله كفرًا بينًا.

وهذا ينقلنا إلى مأزق أخلاقي؛ ألا وهو: هل يجوز للمترجِم أن ينقل ما يتنافى مع عقيدته وقناعاته؟ وفي هذا المقام، نقول إن للمترجِم حرية أن يختار النص الذي يتوافق مع ثوابته الأخلاقية؛ أو يمكنه أن يستفتي قلبه ويتبع قاعدة: ” ناقل الكفر ليس بكافر “، فالمترجِم بطبيعة الحال ينقل حضارة أخرى تعتنق مذهبًا مختلفًا؛ ولا يعني هذا بالضرورة أنه يؤمن بكل كلمة يكتبها المؤلف وإنما واجبه أن ينقل ما قاله المؤلف حتى وإن كان معترضًا عليه. وإن لم يفعل، فهو خائن فعلاً!!

وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه الدقة الشديدة في النقل والترجمة قد تكون أحيانًا أمرًا نظريًا؛ حيث إن سوق العمل قد تفرض عليك الحذف أو الطمس بما يتماشى مع سياسات المكان الذي تعمل به، والذي يشتري بالطبع حقوق الملكية الفكرية للنص الأصلي ويخطر المؤلف بالتغيرات التي قد تطرأ على النص لكي يتماشى مع الجمهور الذي يُقدم له النص المُترجَم.

وكل هذه الجوانب متشابكة ومترابطة بما لا يدع مجالاً للفصل بينها أو مناقشتها دفعة واحدة؛ دون إفراد لكل منها مساحة كافية ووافية؛ ولكن ما أود التأكيد عليه هنا هو أن المترجِم حاوٍ ووسيط في آن واحد، لديه أدوات تمكنه من تقمص روح الكاتب والمؤلف ليتمكن من إخراج نص مترجَم بعباءة جديدة تحمل بين جنباتها روح النص الأصلي دون إخلال أو إغفال أو حذف أو إضافة؛ ليبقى المترجِم وراء كواليس النص الأصلي وفي بؤرة ضوء النص المُترجَم قادرًا على الاتصال بذلك العالم الأجنبي ونقل أفكاره وحضاراته وثقافاته ومعارفه.

* من بين الكتّاب الذين تناولوا قصة دكتور فاوست في أعمالهم الأدبية: رواية كريستوفر مارلو التي تحمل اسم The Tragical History of Doctor Faustus ورواية أوسكار وايلد التي تحمل اسم The Picture of Dorian Grayورواية الكاتب الروسي ميخائيل بولغاكوف بعنوان المعلم ومارغريتا (بالروسية: Мастер и Маргарита) ومسرحية يوهان فولفجانج فون جوته (بالألمانية: Faust: Der Tragödie erster Teil) ومسرحية أحمد علي باكثير بعنوان فاوست الجديد.

نبذة عن الكاتب

رشا ص. الدخاخني

رشا صلاح الدخاخني تخرجت في كلية الآداب – قسم اللغة الإنجليزية، جامعة القاهرة. ومنذ تخرجها عملت مترجمة في مكاتب كثيرة وعدة دور نشر من بينها دار الفاروق للاستثمارات الثقافية وشركة بيت اللغات الدولية وصبرة جروب. وحصلت على دبلوم ترجمة الأمم المتحدة والترجمة القانونية من الجامعة الأمريكية.

اترك تعليقا